والله اعلم
[ 8 ]
قال الله تعالي في كتابه العزيز: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد
موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن
كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد
أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم
والله عليم بالظالمين.
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ،
قالوا أنى يكون له الملك علينا ، ونحن أحق بالملك منه ، ولم يؤت سعة من المال
قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم.
وقال لهم نبيهم أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
فلما فصل طالوت بالجنود ، قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني
ومن لم يطعمه فإنه مني ، إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده
قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله
وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين) [ البقرة: 246 - 251).
قال أكثر المفسرين: كان ( نبي ) هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو"
شمويل " . ( وقيل شمعون وقيل هما واحد ، وقيل يوشع ، وهذا بعيد لما ذكره
الامام أبو جعفر بن جرير .. في تاريخه ،قال: أن بين موت يوشع .. وبعثة
شمويل ، أربعمائة سنة وستين سنة ) .. فالله أعلم .
والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الاعداء سألوا نبي الله
.. في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكا .. يكونون تحت طاعته
ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الاعداء.
فقال لهم: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا
قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله) [ البقرة: 246 ] أي وأي شي يمنعنا من القتال
(وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) يقولون نحن محروبون موتورون، فحقيق لنا أن
نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.
قال تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم
بالظالمين) [ البقرة: 246 ] كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع
الملك .. إلا القليل .. والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال
(وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) قال الثعلبي وهو طالوت بن
قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم الخليل (1 طالوت وهو ساود بن بشر بن أنيال بن طرون بن
بحرون بن أفيح بن سميداح بن فالح بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
عليهم السلام. وفي كامل ابن الاثير: وهو بالسريانية: شاول بن قيس بن انمار
بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق . ). وقيل
غير ذلك (2 جاء في القرطبي - أحكام القرآن: وقيل كان مكاريا. وكان عالما )
فالله أعلم .
ولهذا: (قالوا أنى يكون له الملك علينا .. ونحن أحق بالملك منه .. ولم يؤت
سعة من المال) وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى وأن الملك كان في سبط
يهوذا ، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه ، وطعنوا في إمارته عليهم ،
وقالوا نحن أحق بالملك منه و [ قد ] (3) ذكروا أنه فقير لا سعة من المال
معه ، فكيف يكون مثل هذا ملكا ؟
(قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم). قيل كان الله قد
أوحى إلى " شمويل " أن أي بني إسرائيل ، كان طوله على طول هذه العصا وإذا
حضر عندك ، يفور هذا القرن (4 الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخرز ) الذي
فيه من دهن القدس فهو ملكهم فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم
يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند " شمويل " فار ذلك القرن
فدهنه منه ، وعينه للملك ( 5 في نسخة: الملك ) عليهم ،
وقال لهم: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم) قيل في أمر الحروب ، وقيل بل مطلقا (والجسم) قيل الطول وقيل الجمال والظاهر من
السياق أنه كان اجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام:
(والله يؤتي ملكه من يشاء) فله الحكم وله الخلق والامر (والله واسع عليم).
(وقال لهم نبيهم إن آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية
مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم
مؤمنين) [ البقرة: 248 ] وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم
ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم وقهرهم الاعداء
عليه وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه
(فيه سكينة من ربكم) قيل طشت من ذهب كان يغسل فيه صدور الانبياء. وقيل
السكينة مثل الريح الخجوج، وقيل صورتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب
أيقن بنو إسرائيل بالنصر (1 قال القرطبي: 3 / 249: قال ابن عطية: والصحيح
أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الانبياء وآثارهم، فكانت النفوس
تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى )
(وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قيل كان فيه رضاض (2) الالواح وشئ من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه
(تحمله الملائكة) أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانا
ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا
الملك الصالح عليكم
ولهذا قال: (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) وقيل إنه لما غلب العمالقة
على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة. وقيل كان
فيه التوراة أيضا ، فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم ، فلما
أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته، فلما كان اليوم الثاني إذا
التابوت فوق الصنم ،فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه
من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم ،فأخذهم داء في رقابهم، فلما طال عليهم
هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما ،فيقال إن الملائكة ساقتهما
حتى جاؤوا بهما ملا بني إسرائيل وهم ينظرون ،كما أخبرهم نبيهم بذلك ،فالله
أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة ،والظاهر أن الملائكة كانت تحمله
بأنفسهم ،كما هو المفهوم بالجنود من الآية والله أعلم. وإن كان الاول قد
ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم
(فلما فصل طالوت قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم
يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) [ البقرة: 249 ]. قال ابن عباس
وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن، وهو المسمى بالشريعة، فكان من
أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له
اختبارا وامتحانا أن
[ 10 ]
من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة (1) في يده.
قال الله تعالى: (فشربوا منه إلا قليلا منهم). قال السدي كان الجيش ثمانين
ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا فبقي معه أربعة آلاف كذا قال. وقد روى
البخاري في صحيحه: من حديث إسرائيل وزهير والثوري عن أبي إسحاق، عن البراء
بن عازب قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر
على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر
وثلثمائة مؤمن ( 2 قال الطبري 1 / 243: عبر معه منهم أربعة ألاف ورجع ستة
وسبعون ألفا ولما نظروا إلى جالوت رجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة
وثمانون وخلص في ثلثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر - وفي رواية وثلاثة عشر -
وما جاز معه إلا مؤمن). وقول السدي أن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه
نظر، لان أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين
ألفا والله أعلم.
قال الله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم
بجالوت وجنوده) [ البقرة: 249 ] أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة
أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم:
(قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله والله مع الصابرين) [ البقرة: 249 ] يعني بها الفرسان منهم. والفرسان
أهل الايمان والايقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين) [ البقرة: 250 ] طلبوا من الله أن يفرغ عليهم
الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق وأن يثبت أقدامهم في
مجال الحرب ومعترك الابطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال فسألوا التثبت
الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين
الجاحدين بآياته وآلائه فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير
إلى ما سألوا وأنالهم ما إليه فيه رغبوا
ولهذا قال: (فهزموهم باذن الله) أي بحول الله لا بحولهم وبقوة الله ونصره
لا بقوتهم وعددهم مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم كما قال تعالى: (ولقد نصركم
الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [ آل عمران: 133 ]
وقوله تعالى: (وقتل داود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) [
البقرة: 251 ] فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلا أذل
(3 قال القرطبي: كان داود رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت
من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده) به جنده وكسره ولا أعظم من
غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الاموال الجزيلة ويأسر الابطال
والشجعان والاقران وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ويدال لاولياء الله على
أعدائه. ويظهر
[ 11 ]
الدين الحق على الباطل وأوليائه.
وقد ذكر السدى فيما يرويه ( القصة من التوراة )،أن داود ع كان أصغر أولاد
أبيه ،وكانوا ثلاثة عشر ذكرا، وقتها طالوت ملك على بني إسرائيل ، داوود سمع
طالوت ملك بني إسرائيل ، وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت (القائد
الفلسطيني ) وجنوده، وهو يقول : من قتل جالوت (الفلسطيني) زوجته بابنتي
وأشركته في ملكي ،
وكان داود ع متمكنا برمي بالقذافة وهو المقلاع ، رميا عظيما فينا هو سائر مع بني إسرائيل
( اما هذا حديث غريب و ربما ليس من التوراة : ) إذ ناداه حجر: أن خذني فإن
بي تقتل جالوت فأخذه ثم حجر آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته
،
فلما تواجه الصفان ، برز جالوت ودعا إلى نفسه ، فتقدم إليه داود فقال له:
ارجع فإني أكره قتلك، فقال: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة
،فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرا واحدا. ثم رمى بها جالوت
ففلق (1 في الطبري: فنقبت رأسه ، وهو نفس ما ورد بالتوراة ) رأسه وفر جيشه
منهزما ،فوفى (2 ذكر المسعودي: أن طالوت أبى أن يفي لداود بما تقدم من
شرطه. فلما رأى ميل الناس إليه زوجه ابنته، وسلم إليه ثلت الجباية، وثلث
الحكم وثلث الناس مروج الذهب ) له طالوت بما وعده ، فزوجه ابنته ، وأجرى
حكمه في ملكه، وعظم داود عليه السلام، عند بني إسرائيل وأحبوه،
ومالوا إليه أكثر من طالوت، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على
ذلك فلم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم
فقتلهم، حتى لم يبق منهم إلا القليل. ثم حصل له توبة وندم وأقلاع عما سلف
منه ، وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكي ، حتى يبل الثرى بدموعه
فنودي ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء ، وآذيتنا ونحن
أموات، فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن
أمره، وهل له من توبة، فقيل له: وهل أبقيت عالما ؟ حتى دل على امرأة من
العابدات فأخذته ، فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام قالوا: فدعت الله
فقام يوشع من قبره فقال: أقامت القيامة ؟ فقالت: لا ولكن هذا طالوت يسألك
هل له من توبة ؟ فقال: نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى
يقتل، ثم عاد ميتا. ( كل ذلك غريب )
فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في
سبيل الله حتى قتلوا ( 3 ذكر المسعودي أنه مات على سرير ملكه ليلة كمدا.
(4) تاريخ الطبري ج 1 / 245 – 246 ) قالوا فذلك قوله: (وآتاه الله الملك
والحكمة وعلمه مما يشاء) [ البقرة: 251 ] هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه (4)
من طريق السدي بإسناده. وفي بعض هذا نظر ونكارة. والله أعلم. وقال محمد بن
إسحق: النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب حكاه ابن جرير
أيضا. وذكر الثعلبي: أنها أتت به إلى قبر اشمويل فعاتبه على ما صنع بعده
من الامور وهذا أنسب. ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حيا فإن
هذا إنما يكون معجزة لنبي وتلك
[ 12 ]
المرأة لم تكن نبية والله أعلم.
يقول التوراة .. أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة . قصة
داود وما كان في أيامه [ وذكر ] فضائله وشمائله ودلائل نبوته واعلامه : هو
داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن إرم (3
الطبري: باعز بدل عابر وعمي نادب بدل عويناذب ; ورام بدل إرم. وفي الانجيل:
إنجيل متى: هو داود بن يسى، بن عوبيد، بن بوعز، بن سلمون، بن نحشون، بن
عمينا داب، بن ارام، بن حصرون بن فارص بن يهوذا، بن إسحاق بن إبراهيم عليه
السلام . ) بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس .
قال محمد بن أسحق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام
قصيرا أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه. تقدم أنه لما قتل جالوت ،
وكان قتله له فيما ذكره ابن عساكر عند قصر أم حكيم ، بقرب مرج الصفر (4 في
مروج الذهب: كان ببيسان من أرض الغور من بلاد الأردن ) فأحبته بنو إسرائيل
ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى
داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة،
وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمع في داود هذا .
وهذا كما قال تعالى: (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما
يشاء. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على
العالمين) [ البقرة: 251 ] أي لولا إقامة الملوك حكاما على الناس لأكل قوي
الناس ضعيفهم. ولهذا جاء في بعض الآثار (السلطان ظل الله في أرضه). وقال
أمير المؤمنين عثمان بن عفان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له أخرج إلي
وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت. قال وهب بن منبه فمال
الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود.
وقيل إن ذلك [ كان ] (5) عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاه قبل الوقعة
(6) قال ابن جرير (7) والذي عليه
[ 101 ]
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا يارسول الله أخبرنا عن نفسك قال: "
دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت
له قصور بصري من أرض الشام " (1). وقد روي عن العرباض بن سارية وأبي أمامة
عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفيه: " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى
" (2) وذلك أن إبراهيم لما بني الكعبة قال: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم
الآية) [ البقرة: 129 ] ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام
فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم، وأنها بعده في النبي العربي
الامي خاتم الانبياء على الاطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
بن هاشم الذي هو من سلالة اسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام قال
الله تعالى: (فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) [ الصف: 6 ] يحتمل
عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الاسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته
ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا
أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله) أي من
يساعدني في الدعوة إلى الله (قال الحواريون نحن أنصار الله) وكان ذلك في
قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى: (فآمنت طائفة من
بني إسرائيل وكفرت طائفة) يعني لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله
تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر وكان ممن آمن به أهل انطاكية بكمالهم فيما
ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة أحدهم
شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس لما
تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم جمهور
اليهود فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد، وأصبحوا ظاهرين عليهم
قاهرين لهم كما قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي
ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
الآية) [ آل عمران: 55 ] فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (3) فمن دونه
ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه من أنه عبد الله ورسوله
كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه، واطروه، وأنزلوه فوق ما أنزله
الله به، ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه
[ 139 ]
يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا، وليس هذا الاستثناء تعليقا وإنما هو
الحقيقي ولهذا قال ابن عباس يصح إلى سنة ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا
ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال لاطوفن الليلة على سبعين
امرأة تلد كل واحدة منه غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له. قال: إن شاء
الله، فلم يقل، فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان
دركا لحاجته " (1). وقوله: (واذكر ربك إذا نسيت) وذلك لان النسيان قد يكون
من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه. وقوله: (وقل
عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) أي إذا اشتبه أمر، وأشكل حال، والتبس
أقوال الناس في شئ فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك ثم قال: (ولبثوا في
كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا). لما كان في الاخبار بطول مدة لبثهم
فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلثمائة
شمسية فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين (قال الله أعلم بما
لبثوا) أي إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل فرد الامر في ذلك إلى
الله عزوجل (له غيب السموات والارض) أي هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا
من شاء من خلقه (أبصر به واسمع) يعني أنه يضع الاشياء في محالها لعلمه
التام بخلقه وبما يستحقونه ثم قال: (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في
حكمه أحدا) أي ربك المنفرد بالملك والمنصرف وحده لا شريك له. قصة الرجلين
المؤمن والكافر قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف: (واضرب
لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما
زرعا كلتا الجنتين آت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان
له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو
ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت
إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا - إلى قوله - هنالك الولاية لله الحق هو
خير ثوابا وخير عقبا) [ الكهف: 32 - 44 ]. قال بعض الناس هذا مثل مضروب ولا
يلزم أن يكون واقعا والجمهور أنه أمر قد وقع وقوله: (واضرب لهم مثلا) يعني
لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم وافتخارهم
عليهم كما قال تعالى: (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) [
يس: 13 ] كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام والمشهور أن
هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا (2) ويقال إنه
كان لكل
[ 145 ]
واستمعوا. قال الله تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به) أي لم يلتفتوا إلى من
نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع (أنجينا الذين ينهون عن السوء) وهم
الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر (وأخذنا الذين ظلموا) وهم
المرتكبون الفاحشة (بعذاب بئيس) وهو الشديد المؤلم الموجع (بما كانوا
يفسقون). ثم فسر العذاب الذي أصابهم فبقوله: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا
لهم كونوا قردة خاسئين). وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك والمقصود هنا أن
الله أخبر أنه أهلك الظالمين ونجى المؤمنين المنكرين وسكت عن الساكتين. وقد
اختلف فيهم العلماء على قولين: فقيل إنهم من الناجين وقيل إنهم من
الهالكين، والصحيح الاول عند المحققين وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام
المفسرين وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة. قلت
وإنما لم يذكروا مع الناجين لانهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا
أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الانكار القولي
الذي هو أوسط المراتب الثلاث: التي أعلاها الانكار باليد ذات البنان،
وبعدها الانكار القولي باللسان، وثالثها الانكار بالجنان. فلما لم يذكروا
نجوا مع الناجين إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها. وقد روى عبد الرزاق: عن
ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس وحكى مالك: عن ابن رومان، وشيبان
عن قتادة وعطاء الخراساني ما مضمونه: أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم
بقية أهل البلد ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم،
ويغلقون بينهم وبينهم أبوابا حاجزا لما كانوا يترقبون من هلاكهم فأصبحوا
ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها وارتفع النهار واشتد الضحاء فأمر
بقية أهل البلد رجلا أن يصعد على سلالم، ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف
عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون ففتحوا عليهم الابواب فجعلت
القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقولون لهم
الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم فتشير القردة برؤوسها أن نعم. ثم بكى عبد
الله بن عباس وقال: إنا لنرى منكرات كثيرة. ولا ننكرها ولا نقول فيها شيئا.
وقال العوفي عن ابن عباس: صار شباب القرية قردة وشيوخها خنازير. وروى ابن
أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس: أنهم لم يعيشوا إلا فواقا ثم هلكوا ما
كان لهم نسل وقال الضحاك عن ابن عباس أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام،
ولم يأكل هؤلاء ولم يشربوا ولم ينسلوا، وقد استقصينا الآثار في ذلك في
تفسير سورة البقرة والاعراف. ولله الحمد والمنة. وقد روى ابن أبي حاتم وابن
جرير من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة
وخنازير وإنما هو مثل ضربه الله (كمثل الحمار يحمل أسفارا) [ الجمعة: 5 ]
وهذا صحيح إليه وغريب منه جدا ومخالف لظاهر القرآن ولما نص عليه غير واحد
من السلف والخلف والله أعلم. قصة أصحاب القرية (إذ جاءها المرسلون) تقدم
ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام.
[ 146 ]
قصة سبأ سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قصة قارون
وقصة بلعام تقدمتا في قصة موسى. وهكذا (قصة الخضر) و (قصة فرعون والسحرة)
كلها في ضمن قصة موسى و (قصة البقرة) تقدمت في قصة موسى. وقصة (الذين خرجوا
من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) في قصة حزقيل. وقصة (الملا من بني إسرائيل
من بعد موسى) في قصة شمويل. وقصة (الذي مر على قرية) في قصة عزير. قصة
لقمان قال تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما
يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد. وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا
بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه
وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير. وإن جاهداك
على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها وصاحبهما في الدنيا معروفا
واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. يا بني
إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأتي
بها الله إن الله لطيف خبير. يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن
المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور. ولا تصعر خدك للناس ولا
تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختار فخور. واقصد في مشيك واغضض من
صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) [ القمان: 12 - 19 ] هو لقمان بن عنقاء
بن سدون (1). ويقال لقمان بن ثاران (2) حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي.
قال السهيلي وكان نوبيا من أهل أيلة. قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة
وحكمة عظيمة. ويقال كان قاضيا في زمن داود عليه السلام فالله أعلم. وقال
سفيان الثوري عن الاشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبدا حبشيا نجارا
(3). وقال قتادة: عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى
إليكم في شأن لقمان ؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة. وقال:
________________________________________
(1) في مروج الذهب: لقمان بن عنقاء بن مربد بن صاوون. وكان نوبيا مولى
للقين بن جسر (2) قال ابن قتيبة في المعارف: كان اسم ابنه ثاران. وفي
القرطبي: قال السيهلي: اسم ابنه ثاران في قول الطبري والقتبي. (3) في
المعارف: عن سعيد بن المسيب: كان خياطا. وزاد: كان عبدا حبشيا. [ * ]
________________________________________
[ 147 ]
يحيى بن سعيد الانصاري: عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذو
مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة (1). وقال الاوزاعي حدثني عبد الرحمن
بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن
من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى
عمر ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر. وقال الاعمش عن مجاهد كان
لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وفي رواية مصفح القدمين. وقال
عمر بن قيس: كان عبدا أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين فأتاه رجل وهو في
مجلس أناس يحدثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟
قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني
رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو
زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الرحمن ابن أبي يزيد بن جابر
قال: إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال
ألست عبد ابن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالامس ؟ قال: بلى قال فما بلغ بك ما
أرى ؟ قال: قدر الله وأداء الامانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني. وقال
ابن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش الفتياني عن عمر مولى عفرة، قال: وقف رجل
على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان أنت عبد بني النحاس ؟ قال: نعم قال:
فأنت راعي الغنم الاسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري قال
وطئ الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك قال يا ابن أخي إن صنعت ما أقول
لك كنت كذلك قال: ما هو ؟ قال لقمان: غضي بصري وكفي لساني، وعفة مطمعي،
وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي
ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي،
حدثنا ابن فضيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن عبدة بن رباح، عن ربيعة، عن أبي
الدرداء أنه قال يوما وذكر لقمان الحكيم فقال: ما أوتي عن أهل، ولا مال،
ولا حسب، ولا خصال ولكنه كان رجلا ضمضامة، سكيتا طويل التفكر، عميق النظر،
لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يتنحنح، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا
يغتسل، ولا يعبث، ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة
يستعيدها إياه أحد، وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا فلم يبك عليهم وكان
يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي. ومنهم
من زعم أنه عرضت عليه النبوة فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة لانها
أسهل عليه وفي هذا نظر. والله أعلم. وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره. وروى
ابن أبي حاتم وابن جرير
________________________________________
(1) وفي المعارف: روى يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن
سعيد بن المسيب أنه قال: كان لقمان نبيا. وعلق صاحب المعارف: ولم يكن نبيا
في قول أكثر الناس. وفي بدائع ابن إياس عن وهب بن منبه قال: كان من
الانبياء ثلاثة سود الالوان: لقمان وذو القرنين ونبي الله صاحب الاخدود. ج 1
ص 250. [ * ]
________________________________________
[ 148 ]
من طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر الجعفي عن عكرمة أنه قال كان لقمان نبيا
وهذا ضعيف لحال الجعفي. والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيما وليا ولم يكن
نبيا، وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ
به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه فكان من أول ما وعظ
به أن قال: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [ لقمان: 13 ].
فنهاه عنه وحذره منه. وقد قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير: عن
الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت: (الذين آمنوا ولم
يلبسوا ايمانهم بظلم) [ الانعام: 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان: (يا بني لا تشرك بالله
إن الشرك لظلم عظيم) رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الاعمش به. ثم
اعترض تعالى بالوصية بالوالدين وبيان حقهما على الولد وتأكده، وأمر
بالاحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما
إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده (يا بني إنها إن تك مثقال حبة
من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأت بها الله إن الله
لطيف خبير) [ لقمان: 16 ] ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل فإن الله يسأل
عنها ويحضرها حوزة الحساب ويضعها في الميزان كما قال تعالى: (إن الله لا
يظلم مثقال ذرة) وقال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم
نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [
الانبياء: 47 ] وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة، ولو كان
في جوف صخرة صماء، لا باب لها ولا كوة، أو لو كانت ساقطة في شئ من ظلمات
الارض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما، لعلم الله مكانها (إن الله
لطيف خبير) أي علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما ترا آي للنواظر، أو توارى
كما قال تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا
رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) [ الانعام: 59 ] وقال: (وما من غائبة في
السماء والارض إلا في كتاب مبين) [ النمل: 75 ] وقال: (عالم الغيب لا يعزب
عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في
كتاب مبين) [ سبأ: 3 ] وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه
الصخرة، الصخرة التي تحت الارضين السبع وهكذا حكى عن عطية العوفي وأبي مالك
والثوري والمنهال بن عمر وغيرهم وفي صحة هذا القول من أصله نظر. ثم إن في
هذا المراد نظر آخر فإن هذه الآية نكرة غير معرفة فلو كان المراد بها ما
قالوه لقال فتكن في الصخرة وإنما المراد فتكن في صخرة كانت كما قال الامام
أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن
أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم يعمل
في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله
________________________________________
[ 149 ]
للناس كائنا ما كان " (1) ثم قال: (يا بني أقم الصلاة) أي أدها بجميع
واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها وما شرع
فيها واجتنب ما ينهى عنه فيها. ثم قال: (وامر بالمعروف وانه عن المنكر) أي
بجهدك وطاقتك أي إن استطعت باليد فباليد، وإلا فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك
ثم أمره بالصبر فقال (واصبر على ما أصابك) وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي
عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه، ولكن له العاقبة، ولهذا أمره
بالصبر على ذلك ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج وقوله: (إن ذلك من عزم الامور)
التي لا بد منها ولا محيد عنها. وقوله: (ولا تصعر خدك للناس) [ لقمان: 18 ]
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك ويزيد بن الاصم وأبو
الجوزاء وغير واحد معناه لا تتكبر على الناس وتميل خدك حال كلامك لهم
وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم. قال أهل اللغة وأصل الصعر
داء يأخذ الابل في أعناقها فتلتوي رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل
وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم. قال أبو طالب في شعره:
وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها وقال عمرو بن حيي
(2) التغلبي: وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما (3)
وقوله: (ولا تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) ينهاه عن
التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى: (ولا
تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) [ الاسراء: 37
]. يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه، ولست بدقك الارض برجلك
تخرق الارض بوطئك عليها، ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولا،
فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك. وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي في برديه
يتبختر فيهما، إذ خسف الله به الارض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة (4)
________________________________________
(1) مسند أحمد 3 / 28. (2) في القرطبي: حنى التغلبي. (3) قال ابن عطية:
تقوما خطأ لان قافية الشعر مخفوضة وقبله في معجم الشعراء للمرزباني: تعاطى
الملوك الحق ما قصدوا بنا * وليس علينا قتلهم بمجرم وقال المرزباني وهذا
البيت - بيت الشاهد ; يروى من قصيدة المتلمس التي أولها: يعيرني أمي رجال
ولن ترى * أخا كرم إلا بأن يتكرما (4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس (5)
وكتاب الانبياء (54) ومسلم في كتاب اللباس 49 - 50 والنسائي في الزينة
(101) وابن ماجه في الفتن 22 والدارمي في المقدمة (40) وأحمد في مسنده 2 /
66 - 267 - 315 66 - 267 - 315 ، 390، 413، 456، 467، 531، 3 / 40. [ * ]
________________________________________
[ 150 ]
وفي الحديث الآخر: " إياك وإسبال الازار فإنها من المخيلة لا يحبها الله "
(1) كما قال في هذه الآية: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) ولما نهاه عن
الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه، فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر
وأمره بالخير، فقال: (واقصد في مشيك) أي لا تتباطأ مفرطا ولا تسرع إسراعا
مفرطا ولكن بين ذلك قواما كما قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على
الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [ الفرقان: 63 ] ثم قال:
(واغضض من صوتك) [ لقمان: 19 ] يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع
الاصوات وأنكرها صوت الحمير. وقد ثبت في الصحيحين الامر بالاستعاذة عند
سماع صوت الحمير بالليل فإنها رأت شيطانا (2)، ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث
لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت، وتخمير الوجه كما ثبت
به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما رفع الصوت بالاذان،
وعند الدعاء إلى الفئة للقتال، وعند الاهلاك ونحو ذلك فذلك مشروع فهذا مما
قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن من الحكم والوصايا النافعة
الجامعة للخير المانعة من الشر وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه وقد
كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء
الله تعالى. قال الامام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك،
أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك ابن يجمع الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر قال أخبرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لقمان الحكيم كان يقول إن الله
إذا استودع شيئا حفظه " (3). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الاشج،
حدثنا عيسى بن يونس، عن الاوزاعي عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مخيمرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني
إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار ". وقال أيضا: حدثنا أبي،
حدثنا عمرو بن عمارة، حدثنا ضمرة، حدثنا السري بن يحيى قال لقمان لابنه: "
يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك " وحدثنا أبي، حدثنا عبدة بن
سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي، عن عون بن عبد
الله، قال قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فادمهم بسهم الاسلام -
يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا
في ذكر الله فاجل سهمك معهم، وإن
________________________________________
أخرجه أحمد في مسنده 4 / 65، 5 / 63، 64، 378 وأخرجه أبو داود في سننه كتاب
اللباس باب 24. (2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (15) وأبو داود في
كتاب الادب (106) والترمذي في كتاب الدعوات (56). أقول في الآية: - دليل
على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير لانها
عالية. - هذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا
بهم، أو بترك الصياح جملة. (3) مسند أحمد ج 2 / 87. [ * ]
________________________________________
[ 151 ]
أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم: وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان،
حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل
يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفد الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو
وعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه. وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا يحيى بن
عبد الباقي المصيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد
الرحمن الطرائفي، عن ابن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي
رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتخذوا
السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن "
قال الطبراني يعني الحبشي وهذا حديث غريب منكر. وقد ذكر له الامام أحمد في
كتاب الزاهد ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة فقال: حدثنا وكيع، حدثنا
سفيان، عن رجل عن مجاهد (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال الفقه والاصابة في
غير نبوة. وكذا روي عن وهب بن منبه، وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أشعث، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا. وحدثنا أسود، حدثنا حماد،
عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا (1). وحدثنا سياد،
حدثنا جعفر، حدثنا مالك يعني ابن دينار قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ
طاعة الله تجارة تأتك الارباح من غير بضاعة. وحدثنا يزيد، حدثنا أبو الأشهب
عن محمد بن واسع، قال كان لقمان يقول لابنه: يا بني اتق الله ولا تري
الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر. وحدثنا يزيد بن هرون، ووكيع
قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن خالد الربعي، قال كان لقمان عبدا حبشيا نجارا
فقال له سيده: اذبح لي شاة، فذبح له شاة، فقال ائتني بأطيب مضغتين فيها
فأتاه باللسان والقلب، فقال [ له ] (2): أما كان فيها شئ أطيب من هذين.
قال: لا. قال: فسكت عنه ما سكت ثم قال له اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال له:
وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب. فقال أمرتك أن تأتيني بأطيبها
مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت
اللسان والقلب، فقال له: إنه ليس شئ أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما
إذا خبثا (3). وحدثنا داود بن رشيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن أبي
عثمان رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان قال: قال لقمان لابنه:
لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده
فيك. وحدثنا داود بن أسيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن
________________________________________
(1) أنظر كتاب المعارف لابن قتيبة: رواه عن يزيد بن هارون عن حماد به. ص
25. (2) زيادة من تفسير القرطبي. (3) في هذا المعنى رفع أكثر من حديث من
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كله وإذا فسدت الجسد كله ألا وهي القلب " وجاء في اللسان قوله صلى الله
عليه وسلم: " من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ; ما بين لحييه ورجليه ". [
* ]
________________________________________
[ 152 ]
شريح بن عبيد الحضرمي، عن عبد الله بن زيد قال: قال لقمان: ألا أن يد الله
على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له. وحدثنا عبد الرزاق:
سمعت ابن جريج قال: كنت أقنع رأسي بالليل، فقال لي عمر: أما علمت أن لقمان
قال: القناع بالنهار مذلة معذرة أو قال معجزة بالليل فلم تقنع رأسك بالليل
؟ قال: قلت له: إن لقمان لم يكن عليه دين. وحدثني حسن بن الجنيد، حدثنا
سفيان قال لقمان لابنه: يا بني ما ندمت على السكوت قط، وإن كان الكلام من
فضة فالسكوت من ذهب. وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن
قتادة أن لقمان قال لابنه: يا بني اعتزل الشر يعتز لك فإن الشر للشر خلق.
وحدثنا أبو معاوية: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال مكتوب في الحكمة يا
بني إياك والرغب، فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب ويزيل الحكم
كما يزيل الطرب، يا بني إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم.
قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي
مليكة، عن عبيد بن عمير قال قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني اختر المجالس
على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عزوجل فاجلس معهم فإنك إن تك
عالما ينفعك علمك وإن تك غبيا يعلموك وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك
معهم. يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه، فإنك إن تك عالما
لا ينفعك علمك، وإن تك غبيا يزيدوك غبيا وان يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط
يصيبك معهم يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين يسفك دماء المؤمنين فإن له
عند الله قاتلا لا يموت. وحدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه
قال مكتوب في الحكمة: بني لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى
الناس ممن يعطيهم العطاء. وقال مكتوب في الحكمة أو في التوراة: " الرفق رأس
الحكمة " وقال مكتوب في التوراة كما ترحمون ترحمون وقال مكتوب في الحكمة: "
كما تزرعون تحصدون " وقال مكتوب في الحكمة أحب خليلك وخليل أبيك. وحدثنا
عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قيل للقمان أي الناس أصبر ؟
قال: صبر لا يتبعه أذى. قيل فأي الناس أعلم ؟ قال من ازداد من علم الناس
إلى علمه. قيل فأي الناس خير قال الغني. قيل الغني من المال قال لا ولكن
الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس. وحدثنا سفيان
هو ابن عيينة قال قيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس
مسيئا. وحدثنا أبو الصمد، عن مالك بن دينار قال: وجدت في بعض الحكمة يبدد
الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما
لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحزم حزمة ثم
ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى. وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا الحكم
بن أبي زهير، وهو الحكم بن موسى، حدثنا الفرج بن
فضالة، عن أبي سعيد قال قال لقمان لابنه: يا بني لا يأكل طعامك إلا
الاتقياء وشاور في أمرك العلماء. وهذا مجموع ما ذكره الامام أحمد في هذه
المواضع وقد قدمنا من الآثار كثيرا لم يروها كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا
والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا
زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: خير الله
لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة. قال: فأتاه
جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة قال فأصبح ينطق بها. قال سعد سمعت قتادة
يقول: قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو
أرسل إلي بالنبوة عزمة (1) لرجوت فيه الفوز منه (2)، ولكنت أرجو أن أقوم
بها ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إلي. وهذا فيه نظر
لان سعيد بن بشير عن قتادة قد تكلموا فيه، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة في قوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال يعني الفقه والاسلام ولم
يكن نبيا ولم يوح إليه. وهكذا نص على هذا غير واحد من السلف (3) منهم مجاهد
وسعيد بن المسيب وابن عباس والله أعلم.
________________________________________
(1) عزمة: عزائم الله فرائضه التي أوجبها على عباده. (2) في تفسير القرطبي:
لرجوت فيها العون منه. (3) قال ابن عطية: عن ابن عمر قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن
اليقين، أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة
يحكم بالحق. فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ; وان عزمت علي
فسمعا وطاعة ". [ * ]
قصة أصحاب الاخدود
قال الله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل
أصحاب الاخدود النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون
بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يومئذ بالله العزيز الحميد. الذي له
ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين
والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) [ البروج: 1 - 10
]. قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسيره هذه السورة ولله الحمد. وقد زعم
محمد بن إسحاق: أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره فزع
[ 8 ]
قال الله تعالي في كتابه العزيز: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد
موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن
كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد
أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم
والله عليم بالظالمين.
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ،
قالوا أنى يكون له الملك علينا ، ونحن أحق بالملك منه ، ولم يؤت سعة من المال
قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم.
وقال لهم نبيهم أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.
فلما فصل طالوت بالجنود ، قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني
ومن لم يطعمه فإنه مني ، إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده
قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله
وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين) [ البقرة: 246 - 251).
قال أكثر المفسرين: كان ( نبي ) هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو"
شمويل " . ( وقيل شمعون وقيل هما واحد ، وقيل يوشع ، وهذا بعيد لما ذكره
الامام أبو جعفر بن جرير .. في تاريخه ،قال: أن بين موت يوشع .. وبعثة
شمويل ، أربعمائة سنة وستين سنة ) .. فالله أعلم .
والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الاعداء سألوا نبي الله
.. في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكا .. يكونون تحت طاعته
ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الاعداء.
فقال لهم: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا
قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله) [ البقرة: 246 ] أي وأي شي يمنعنا من القتال
(وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) يقولون نحن محروبون موتورون، فحقيق لنا أن
نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.
قال تعالى: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم
بالظالمين) [ البقرة: 246 ] كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع
الملك .. إلا القليل .. والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال
(وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) قال الثعلبي وهو طالوت بن
قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم الخليل (1 طالوت وهو ساود بن بشر بن أنيال بن طرون بن
بحرون بن أفيح بن سميداح بن فالح بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
عليهم السلام. وفي كامل ابن الاثير: وهو بالسريانية: شاول بن قيس بن انمار
بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق . ). وقيل
غير ذلك (2 جاء في القرطبي - أحكام القرآن: وقيل كان مكاريا. وكان عالما )
فالله أعلم .
ولهذا: (قالوا أنى يكون له الملك علينا .. ونحن أحق بالملك منه .. ولم يؤت
سعة من المال) وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى وأن الملك كان في سبط
يهوذا ، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه ، وطعنوا في إمارته عليهم ،
وقالوا نحن أحق بالملك منه و [ قد ] (3) ذكروا أنه فقير لا سعة من المال
معه ، فكيف يكون مثل هذا ملكا ؟
(قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم). قيل كان الله قد
أوحى إلى " شمويل " أن أي بني إسرائيل ، كان طوله على طول هذه العصا وإذا
حضر عندك ، يفور هذا القرن (4 الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخرز ) الذي
فيه من دهن القدس فهو ملكهم فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم
يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند " شمويل " فار ذلك القرن
فدهنه منه ، وعينه للملك ( 5 في نسخة: الملك ) عليهم ،
وقال لهم: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم) قيل في أمر الحروب ، وقيل بل مطلقا (والجسم) قيل الطول وقيل الجمال والظاهر من
السياق أنه كان اجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام:
(والله يؤتي ملكه من يشاء) فله الحكم وله الخلق والامر (والله واسع عليم).
(وقال لهم نبيهم إن آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية
مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم
مؤمنين) [ البقرة: 248 ] وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم
ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم وقهرهم الاعداء
عليه وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه
(فيه سكينة من ربكم) قيل طشت من ذهب كان يغسل فيه صدور الانبياء. وقيل
السكينة مثل الريح الخجوج، وقيل صورتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب
أيقن بنو إسرائيل بالنصر (1 قال القرطبي: 3 / 249: قال ابن عطية: والصحيح
أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الانبياء وآثارهم، فكانت النفوس
تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى )
(وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قيل كان فيه رضاض (2) الالواح وشئ من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه
(تحمله الملائكة) أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانا
ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا
الملك الصالح عليكم
ولهذا قال: (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) وقيل إنه لما غلب العمالقة
على هذا التابوت وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة. وقيل كان
فيه التوراة أيضا ، فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم ، فلما
أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته، فلما كان اليوم الثاني إذا
التابوت فوق الصنم ،فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه
من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم ،فأخذهم داء في رقابهم، فلما طال عليهم
هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما ،فيقال إن الملائكة ساقتهما
حتى جاؤوا بهما ملا بني إسرائيل وهم ينظرون ،كما أخبرهم نبيهم بذلك ،فالله
أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة ،والظاهر أن الملائكة كانت تحمله
بأنفسهم ،كما هو المفهوم بالجنود من الآية والله أعلم. وإن كان الاول قد
ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم
(فلما فصل طالوت قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم
يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) [ البقرة: 249 ]. قال ابن عباس
وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن، وهو المسمى بالشريعة، فكان من
أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له
اختبارا وامتحانا أن
[ 10 ]
من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة (1) في يده.
قال الله تعالى: (فشربوا منه إلا قليلا منهم). قال السدي كان الجيش ثمانين
ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا فبقي معه أربعة آلاف كذا قال. وقد روى
البخاري في صحيحه: من حديث إسرائيل وزهير والثوري عن أبي إسحاق، عن البراء
بن عازب قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر
على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر
وثلثمائة مؤمن ( 2 قال الطبري 1 / 243: عبر معه منهم أربعة ألاف ورجع ستة
وسبعون ألفا ولما نظروا إلى جالوت رجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة
وثمانون وخلص في ثلثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر - وفي رواية وثلاثة عشر -
وما جاز معه إلا مؤمن). وقول السدي أن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه
نظر، لان أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين
ألفا والله أعلم.
قال الله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم
بجالوت وجنوده) [ البقرة: 249 ] أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة
أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم:
(قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله والله مع الصابرين) [ البقرة: 249 ] يعني بها الفرسان منهم. والفرسان
أهل الايمان والايقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.
(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين) [ البقرة: 250 ] طلبوا من الله أن يفرغ عليهم
الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق وأن يثبت أقدامهم في
مجال الحرب ومعترك الابطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال فسألوا التثبت
الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين
الجاحدين بآياته وآلائه فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير
إلى ما سألوا وأنالهم ما إليه فيه رغبوا
ولهذا قال: (فهزموهم باذن الله) أي بحول الله لا بحولهم وبقوة الله ونصره
لا بقوتهم وعددهم مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم كما قال تعالى: (ولقد نصركم
الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [ آل عمران: 133 ]
وقوله تعالى: (وقتل داود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) [
البقرة: 251 ] فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلا أذل
(3 قال القرطبي: كان داود رجلا قصيرا مسقاما مصفارا أصغر أزرق، وكان جالوت
من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده) به جنده وكسره ولا أعظم من
غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الاموال الجزيلة ويأسر الابطال
والشجعان والاقران وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ويدال لاولياء الله على
أعدائه. ويظهر
[ 11 ]
الدين الحق على الباطل وأوليائه.
وقد ذكر السدى فيما يرويه ( القصة من التوراة )،أن داود ع كان أصغر أولاد
أبيه ،وكانوا ثلاثة عشر ذكرا، وقتها طالوت ملك على بني إسرائيل ، داوود سمع
طالوت ملك بني إسرائيل ، وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت (القائد
الفلسطيني ) وجنوده، وهو يقول : من قتل جالوت (الفلسطيني) زوجته بابنتي
وأشركته في ملكي ،
وكان داود ع متمكنا برمي بالقذافة وهو المقلاع ، رميا عظيما فينا هو سائر مع بني إسرائيل
( اما هذا حديث غريب و ربما ليس من التوراة : ) إذ ناداه حجر: أن خذني فإن
بي تقتل جالوت فأخذه ثم حجر آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته
،
فلما تواجه الصفان ، برز جالوت ودعا إلى نفسه ، فتقدم إليه داود فقال له:
ارجع فإني أكره قتلك، فقال: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة
،فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرا واحدا. ثم رمى بها جالوت
ففلق (1 في الطبري: فنقبت رأسه ، وهو نفس ما ورد بالتوراة ) رأسه وفر جيشه
منهزما ،فوفى (2 ذكر المسعودي: أن طالوت أبى أن يفي لداود بما تقدم من
شرطه. فلما رأى ميل الناس إليه زوجه ابنته، وسلم إليه ثلت الجباية، وثلث
الحكم وثلث الناس مروج الذهب ) له طالوت بما وعده ، فزوجه ابنته ، وأجرى
حكمه في ملكه، وعظم داود عليه السلام، عند بني إسرائيل وأحبوه،
ومالوا إليه أكثر من طالوت، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على
ذلك فلم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم
فقتلهم، حتى لم يبق منهم إلا القليل. ثم حصل له توبة وندم وأقلاع عما سلف
منه ، وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكي ، حتى يبل الثرى بدموعه
فنودي ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء ، وآذيتنا ونحن
أموات، فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن
أمره، وهل له من توبة، فقيل له: وهل أبقيت عالما ؟ حتى دل على امرأة من
العابدات فأخذته ، فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام قالوا: فدعت الله
فقام يوشع من قبره فقال: أقامت القيامة ؟ فقالت: لا ولكن هذا طالوت يسألك
هل له من توبة ؟ فقال: نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى
يقتل، ثم عاد ميتا. ( كل ذلك غريب )
فترك الملك لداود عليه السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في
سبيل الله حتى قتلوا ( 3 ذكر المسعودي أنه مات على سرير ملكه ليلة كمدا.
(4) تاريخ الطبري ج 1 / 245 – 246 ) قالوا فذلك قوله: (وآتاه الله الملك
والحكمة وعلمه مما يشاء) [ البقرة: 251 ] هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه (4)
من طريق السدي بإسناده. وفي بعض هذا نظر ونكارة. والله أعلم. وقال محمد بن
إسحق: النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب حكاه ابن جرير
أيضا. وذكر الثعلبي: أنها أتت به إلى قبر اشمويل فعاتبه على ما صنع بعده
من الامور وهذا أنسب. ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حيا فإن
هذا إنما يكون معجزة لنبي وتلك
[ 12 ]
المرأة لم تكن نبية والله أعلم.
يقول التوراة .. أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة . قصة
داود وما كان في أيامه [ وذكر ] فضائله وشمائله ودلائل نبوته واعلامه : هو
داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن إرم (3
الطبري: باعز بدل عابر وعمي نادب بدل عويناذب ; ورام بدل إرم. وفي الانجيل:
إنجيل متى: هو داود بن يسى، بن عوبيد، بن بوعز، بن سلمون، بن نحشون، بن
عمينا داب، بن ارام، بن حصرون بن فارص بن يهوذا، بن إسحاق بن إبراهيم عليه
السلام . ) بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس .
قال محمد بن أسحق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام
قصيرا أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه. تقدم أنه لما قتل جالوت ،
وكان قتله له فيما ذكره ابن عساكر عند قصر أم حكيم ، بقرب مرج الصفر (4 في
مروج الذهب: كان ببيسان من أرض الغور من بلاد الأردن ) فأحبته بنو إسرائيل
ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى
داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة،
وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمع في داود هذا .
وهذا كما قال تعالى: (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما
يشاء. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على
العالمين) [ البقرة: 251 ] أي لولا إقامة الملوك حكاما على الناس لأكل قوي
الناس ضعيفهم. ولهذا جاء في بعض الآثار (السلطان ظل الله في أرضه). وقال
أمير المؤمنين عثمان بن عفان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له أخرج إلي
وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت. قال وهب بن منبه فمال
الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود.
وقيل إن ذلك [ كان ] (5) عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاه قبل الوقعة
(6) قال ابن جرير (7) والذي عليه
[ 101 ]
قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا يارسول الله أخبرنا عن نفسك قال: "
دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت
له قصور بصري من أرض الشام " (1). وقد روي عن العرباض بن سارية وأبي أمامة
عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وفيه: " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى
" (2) وذلك أن إبراهيم لما بني الكعبة قال: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم
الآية) [ البقرة: 129 ] ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام
فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم، وأنها بعده في النبي العربي
الامي خاتم الانبياء على الاطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
بن هاشم الذي هو من سلالة اسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام قال
الله تعالى: (فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) [ الصف: 6 ] يحتمل
عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى الله عليه وسلم
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الاسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته
ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا
أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله) أي من
يساعدني في الدعوة إلى الله (قال الحواريون نحن أنصار الله) وكان ذلك في
قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى: (فآمنت طائفة من
بني إسرائيل وكفرت طائفة) يعني لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله
تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر وكان ممن آمن به أهل انطاكية بكمالهم فيما
ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة أحدهم
شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس لما
تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم جمهور
اليهود فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد، وأصبحوا ظاهرين عليهم
قاهرين لهم كما قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي
ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
الآية) [ آل عمران: 55 ] فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (3) فمن دونه
ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه من أنه عبد الله ورسوله
كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه، واطروه، وأنزلوه فوق ما أنزله
الله به، ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه
[ 139 ]
يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا، وليس هذا الاستثناء تعليقا وإنما هو
الحقيقي ولهذا قال ابن عباس يصح إلى سنة ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا
ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال لاطوفن الليلة على سبعين
امرأة تلد كل واحدة منه غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له. قال: إن شاء
الله، فلم يقل، فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان
دركا لحاجته " (1). وقوله: (واذكر ربك إذا نسيت) وذلك لان النسيان قد يكون
من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه. وقوله: (وقل
عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) أي إذا اشتبه أمر، وأشكل حال، والتبس
أقوال الناس في شئ فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك ثم قال: (ولبثوا في
كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا). لما كان في الاخبار بطول مدة لبثهم
فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلثمائة
شمسية فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين (قال الله أعلم بما
لبثوا) أي إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل فرد الامر في ذلك إلى
الله عزوجل (له غيب السموات والارض) أي هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا
من شاء من خلقه (أبصر به واسمع) يعني أنه يضع الاشياء في محالها لعلمه
التام بخلقه وبما يستحقونه ثم قال: (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في
حكمه أحدا) أي ربك المنفرد بالملك والمنصرف وحده لا شريك له. قصة الرجلين
المؤمن والكافر قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف: (واضرب
لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما
زرعا كلتا الجنتين آت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان
له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو
ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت
إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا - إلى قوله - هنالك الولاية لله الحق هو
خير ثوابا وخير عقبا) [ الكهف: 32 - 44 ]. قال بعض الناس هذا مثل مضروب ولا
يلزم أن يكون واقعا والجمهور أنه أمر قد وقع وقوله: (واضرب لهم مثلا) يعني
لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم وافتخارهم
عليهم كما قال تعالى: (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) [
يس: 13 ] كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام والمشهور أن
هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا (2) ويقال إنه
كان لكل
[ 145 ]
واستمعوا. قال الله تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به) أي لم يلتفتوا إلى من
نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع (أنجينا الذين ينهون عن السوء) وهم
الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر (وأخذنا الذين ظلموا) وهم
المرتكبون الفاحشة (بعذاب بئيس) وهو الشديد المؤلم الموجع (بما كانوا
يفسقون). ثم فسر العذاب الذي أصابهم فبقوله: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا
لهم كونوا قردة خاسئين). وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك والمقصود هنا أن
الله أخبر أنه أهلك الظالمين ونجى المؤمنين المنكرين وسكت عن الساكتين. وقد
اختلف فيهم العلماء على قولين: فقيل إنهم من الناجين وقيل إنهم من
الهالكين، والصحيح الاول عند المحققين وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام
المفسرين وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة. قلت
وإنما لم يذكروا مع الناجين لانهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا
أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الانكار القولي
الذي هو أوسط المراتب الثلاث: التي أعلاها الانكار باليد ذات البنان،
وبعدها الانكار القولي باللسان، وثالثها الانكار بالجنان. فلما لم يذكروا
نجوا مع الناجين إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها. وقد روى عبد الرزاق: عن
ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس وحكى مالك: عن ابن رومان، وشيبان
عن قتادة وعطاء الخراساني ما مضمونه: أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم
بقية أهل البلد ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم،
ويغلقون بينهم وبينهم أبوابا حاجزا لما كانوا يترقبون من هلاكهم فأصبحوا
ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها وارتفع النهار واشتد الضحاء فأمر
بقية أهل البلد رجلا أن يصعد على سلالم، ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف
عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون ففتحوا عليهم الابواب فجعلت
القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقولون لهم
الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم فتشير القردة برؤوسها أن نعم. ثم بكى عبد
الله بن عباس وقال: إنا لنرى منكرات كثيرة. ولا ننكرها ولا نقول فيها شيئا.
وقال العوفي عن ابن عباس: صار شباب القرية قردة وشيوخها خنازير. وروى ابن
أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس: أنهم لم يعيشوا إلا فواقا ثم هلكوا ما
كان لهم نسل وقال الضحاك عن ابن عباس أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام،
ولم يأكل هؤلاء ولم يشربوا ولم ينسلوا، وقد استقصينا الآثار في ذلك في
تفسير سورة البقرة والاعراف. ولله الحمد والمنة. وقد روى ابن أبي حاتم وابن
جرير من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة
وخنازير وإنما هو مثل ضربه الله (كمثل الحمار يحمل أسفارا) [ الجمعة: 5 ]
وهذا صحيح إليه وغريب منه جدا ومخالف لظاهر القرآن ولما نص عليه غير واحد
من السلف والخلف والله أعلم. قصة أصحاب القرية (إذ جاءها المرسلون) تقدم
ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام.
[ 146 ]
قصة سبأ سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قصة قارون
وقصة بلعام تقدمتا في قصة موسى. وهكذا (قصة الخضر) و (قصة فرعون والسحرة)
كلها في ضمن قصة موسى و (قصة البقرة) تقدمت في قصة موسى. وقصة (الذين خرجوا
من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) في قصة حزقيل. وقصة (الملا من بني إسرائيل
من بعد موسى) في قصة شمويل. وقصة (الذي مر على قرية) في قصة عزير. قصة
لقمان قال تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما
يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد. وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا
بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه
وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير. وإن جاهداك
على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها وصاحبهما في الدنيا معروفا
واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. يا بني
إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأتي
بها الله إن الله لطيف خبير. يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن
المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور. ولا تصعر خدك للناس ولا
تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختار فخور. واقصد في مشيك واغضض من
صوتك إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) [ القمان: 12 - 19 ] هو لقمان بن عنقاء
بن سدون (1). ويقال لقمان بن ثاران (2) حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي.
قال السهيلي وكان نوبيا من أهل أيلة. قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة
وحكمة عظيمة. ويقال كان قاضيا في زمن داود عليه السلام فالله أعلم. وقال
سفيان الثوري عن الاشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبدا حبشيا نجارا
(3). وقال قتادة: عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى
إليكم في شأن لقمان ؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة. وقال:
________________________________________
(1) في مروج الذهب: لقمان بن عنقاء بن مربد بن صاوون. وكان نوبيا مولى
للقين بن جسر (2) قال ابن قتيبة في المعارف: كان اسم ابنه ثاران. وفي
القرطبي: قال السيهلي: اسم ابنه ثاران في قول الطبري والقتبي. (3) في
المعارف: عن سعيد بن المسيب: كان خياطا. وزاد: كان عبدا حبشيا. [ * ]
________________________________________
[ 147 ]
يحيى بن سعيد الانصاري: عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذو
مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة (1). وقال الاوزاعي حدثني عبد الرحمن
بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن
من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى
عمر ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر. وقال الاعمش عن مجاهد كان
لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وفي رواية مصفح القدمين. وقال
عمر بن قيس: كان عبدا أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين فأتاه رجل وهو في
مجلس أناس يحدثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟
قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني
رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو
زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الرحمن ابن أبي يزيد بن جابر
قال: إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال
ألست عبد ابن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالامس ؟ قال: بلى قال فما بلغ بك ما
أرى ؟ قال: قدر الله وأداء الامانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني. وقال
ابن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش الفتياني عن عمر مولى عفرة، قال: وقف رجل
على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان أنت عبد بني النحاس ؟ قال: نعم قال:
فأنت راعي الغنم الاسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري قال
وطئ الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك قال يا ابن أخي إن صنعت ما أقول
لك كنت كذلك قال: ما هو ؟ قال لقمان: غضي بصري وكفي لساني، وعفة مطمعي،
وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي
ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي،
حدثنا ابن فضيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن عبدة بن رباح، عن ربيعة، عن أبي
الدرداء أنه قال يوما وذكر لقمان الحكيم فقال: ما أوتي عن أهل، ولا مال،
ولا حسب، ولا خصال ولكنه كان رجلا ضمضامة، سكيتا طويل التفكر، عميق النظر،
لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يتنحنح، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا
يغتسل، ولا يعبث، ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة
يستعيدها إياه أحد، وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا فلم يبك عليهم وكان
يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي. ومنهم
من زعم أنه عرضت عليه النبوة فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة لانها
أسهل عليه وفي هذا نظر. والله أعلم. وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره. وروى
ابن أبي حاتم وابن جرير
________________________________________
(1) وفي المعارف: روى يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن
سعيد بن المسيب أنه قال: كان لقمان نبيا. وعلق صاحب المعارف: ولم يكن نبيا
في قول أكثر الناس. وفي بدائع ابن إياس عن وهب بن منبه قال: كان من
الانبياء ثلاثة سود الالوان: لقمان وذو القرنين ونبي الله صاحب الاخدود. ج 1
ص 250. [ * ]
________________________________________
[ 148 ]
من طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر الجعفي عن عكرمة أنه قال كان لقمان نبيا
وهذا ضعيف لحال الجعفي. والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيما وليا ولم يكن
نبيا، وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ
به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه فكان من أول ما وعظ
به أن قال: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [ لقمان: 13 ].
فنهاه عنه وحذره منه. وقد قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير: عن
الاعمش، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت: (الذين آمنوا ولم
يلبسوا ايمانهم بظلم) [ الانعام: 82 ] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان: (يا بني لا تشرك بالله
إن الشرك لظلم عظيم) رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الاعمش به. ثم
اعترض تعالى بالوصية بالوالدين وبيان حقهما على الولد وتأكده، وأمر
بالاحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما
إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده (يا بني إنها إن تك مثقال حبة
من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض يأت بها الله إن الله
لطيف خبير) [ لقمان: 16 ] ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل فإن الله يسأل
عنها ويحضرها حوزة الحساب ويضعها في الميزان كما قال تعالى: (إن الله لا
يظلم مثقال ذرة) وقال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم
نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [
الانبياء: 47 ] وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة، ولو كان
في جوف صخرة صماء، لا باب لها ولا كوة، أو لو كانت ساقطة في شئ من ظلمات
الارض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما، لعلم الله مكانها (إن الله
لطيف خبير) أي علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما ترا آي للنواظر، أو توارى
كما قال تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا
رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) [ الانعام: 59 ] وقال: (وما من غائبة في
السماء والارض إلا في كتاب مبين) [ النمل: 75 ] وقال: (عالم الغيب لا يعزب
عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في
كتاب مبين) [ سبأ: 3 ] وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه
الصخرة، الصخرة التي تحت الارضين السبع وهكذا حكى عن عطية العوفي وأبي مالك
والثوري والمنهال بن عمر وغيرهم وفي صحة هذا القول من أصله نظر. ثم إن في
هذا المراد نظر آخر فإن هذه الآية نكرة غير معرفة فلو كان المراد بها ما
قالوه لقال فتكن في الصخرة وإنما المراد فتكن في صخرة كانت كما قال الامام
أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن
أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم يعمل
في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله
________________________________________
[ 149 ]
للناس كائنا ما كان " (1) ثم قال: (يا بني أقم الصلاة) أي أدها بجميع
واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها وما شرع
فيها واجتنب ما ينهى عنه فيها. ثم قال: (وامر بالمعروف وانه عن المنكر) أي
بجهدك وطاقتك أي إن استطعت باليد فباليد، وإلا فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك
ثم أمره بالصبر فقال (واصبر على ما أصابك) وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي
عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه، ولكن له العاقبة، ولهذا أمره
بالصبر على ذلك ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج وقوله: (إن ذلك من عزم الامور)
التي لا بد منها ولا محيد عنها. وقوله: (ولا تصعر خدك للناس) [ لقمان: 18 ]
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك ويزيد بن الاصم وأبو
الجوزاء وغير واحد معناه لا تتكبر على الناس وتميل خدك حال كلامك لهم
وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم. قال أهل اللغة وأصل الصعر
داء يأخذ الابل في أعناقها فتلتوي رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل
وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم. قال أبو طالب في شعره:
وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها وقال عمرو بن حيي
(2) التغلبي: وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما (3)
وقوله: (ولا تمش في الارض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) ينهاه عن
التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى: (ولا
تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا) [ الاسراء: 37
]. يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه، ولست بدقك الارض برجلك
تخرق الارض بوطئك عليها، ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولا،
فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك. وقد ثبت في الحديث بينما رجل يمشي في برديه
يتبختر فيهما، إذ خسف الله به الارض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة (4)
________________________________________
(1) مسند أحمد 3 / 28. (2) في القرطبي: حنى التغلبي. (3) قال ابن عطية:
تقوما خطأ لان قافية الشعر مخفوضة وقبله في معجم الشعراء للمرزباني: تعاطى
الملوك الحق ما قصدوا بنا * وليس علينا قتلهم بمجرم وقال المرزباني وهذا
البيت - بيت الشاهد ; يروى من قصيدة المتلمس التي أولها: يعيرني أمي رجال
ولن ترى * أخا كرم إلا بأن يتكرما (4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس (5)
وكتاب الانبياء (54) ومسلم في كتاب اللباس 49 - 50 والنسائي في الزينة
(101) وابن ماجه في الفتن 22 والدارمي في المقدمة (40) وأحمد في مسنده 2 /
66 - 267 - 315 66 - 267 - 315 ، 390، 413، 456، 467، 531، 3 / 40. [ * ]
________________________________________
[ 150 ]
وفي الحديث الآخر: " إياك وإسبال الازار فإنها من المخيلة لا يحبها الله "
(1) كما قال في هذه الآية: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) ولما نهاه عن
الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه، فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر
وأمره بالخير، فقال: (واقصد في مشيك) أي لا تتباطأ مفرطا ولا تسرع إسراعا
مفرطا ولكن بين ذلك قواما كما قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على
الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [ الفرقان: 63 ] ثم قال:
(واغضض من صوتك) [ لقمان: 19 ] يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع
الاصوات وأنكرها صوت الحمير. وقد ثبت في الصحيحين الامر بالاستعاذة عند
سماع صوت الحمير بالليل فإنها رأت شيطانا (2)، ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث
لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت، وتخمير الوجه كما ثبت
به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما رفع الصوت بالاذان،
وعند الدعاء إلى الفئة للقتال، وعند الاهلاك ونحو ذلك فذلك مشروع فهذا مما
قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن من الحكم والوصايا النافعة
الجامعة للخير المانعة من الشر وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه وقد
كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء
الله تعالى. قال الامام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك،
أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك ابن يجمع الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر قال أخبرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لقمان الحكيم كان يقول إن الله
إذا استودع شيئا حفظه " (3). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الاشج،
حدثنا عيسى بن يونس، عن الاوزاعي عن موسى بن سليمان، عن القاسم بن مخيمرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني
إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار ". وقال أيضا: حدثنا أبي،
حدثنا عمرو بن عمارة، حدثنا ضمرة، حدثنا السري بن يحيى قال لقمان لابنه: "
يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك " وحدثنا أبي، حدثنا عبدة بن
سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي، عن عون بن عبد
الله، قال قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فادمهم بسهم الاسلام -
يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا
في ذكر الله فاجل سهمك معهم، وإن
________________________________________
أخرجه أحمد في مسنده 4 / 65، 5 / 63، 64، 378 وأخرجه أبو داود في سننه كتاب
اللباس باب 24. (2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (15) وأبو داود في
كتاب الادب (106) والترمذي في كتاب الدعوات (56). أقول في الآية: - دليل
على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير لانها
عالية. - هذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا
بهم، أو بترك الصياح جملة. (3) مسند أحمد ج 2 / 87. [ * ]
________________________________________
[ 151 ]
أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم: وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان،
حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل
يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفد الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو
وعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه. وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا يحيى بن
عبد الباقي المصيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد
الرحمن الطرائفي، عن ابن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي
رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتخذوا
السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن "
قال الطبراني يعني الحبشي وهذا حديث غريب منكر. وقد ذكر له الامام أحمد في
كتاب الزاهد ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة فقال: حدثنا وكيع، حدثنا
سفيان، عن رجل عن مجاهد (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال الفقه والاصابة في
غير نبوة. وكذا روي عن وهب بن منبه، وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أشعث، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا. وحدثنا أسود، حدثنا حماد،
عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا (1). وحدثنا سياد،
حدثنا جعفر، حدثنا مالك يعني ابن دينار قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ
طاعة الله تجارة تأتك الارباح من غير بضاعة. وحدثنا يزيد، حدثنا أبو الأشهب
عن محمد بن واسع، قال كان لقمان يقول لابنه: يا بني اتق الله ولا تري
الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر. وحدثنا يزيد بن هرون، ووكيع
قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن خالد الربعي، قال كان لقمان عبدا حبشيا نجارا
فقال له سيده: اذبح لي شاة، فذبح له شاة، فقال ائتني بأطيب مضغتين فيها
فأتاه باللسان والقلب، فقال [ له ] (2): أما كان فيها شئ أطيب من هذين.
قال: لا. قال: فسكت عنه ما سكت ثم قال له اذبح لي شاة فذبح له شاة فقال له:
وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب. فقال أمرتك أن تأتيني بأطيبها
مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت
اللسان والقلب، فقال له: إنه ليس شئ أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما
إذا خبثا (3). وحدثنا داود بن رشيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن أبي
عثمان رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان قال: قال لقمان لابنه:
لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده
فيك. وحدثنا داود بن أسيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن
________________________________________
(1) أنظر كتاب المعارف لابن قتيبة: رواه عن يزيد بن هارون عن حماد به. ص
25. (2) زيادة من تفسير القرطبي. (3) في هذا المعنى رفع أكثر من حديث من
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كله وإذا فسدت الجسد كله ألا وهي القلب " وجاء في اللسان قوله صلى الله
عليه وسلم: " من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ; ما بين لحييه ورجليه ". [
* ]
________________________________________
[ 152 ]
شريح بن عبيد الحضرمي، عن عبد الله بن زيد قال: قال لقمان: ألا أن يد الله
على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له. وحدثنا عبد الرزاق:
سمعت ابن جريج قال: كنت أقنع رأسي بالليل، فقال لي عمر: أما علمت أن لقمان
قال: القناع بالنهار مذلة معذرة أو قال معجزة بالليل فلم تقنع رأسك بالليل
؟ قال: قلت له: إن لقمان لم يكن عليه دين. وحدثني حسن بن الجنيد، حدثنا
سفيان قال لقمان لابنه: يا بني ما ندمت على السكوت قط، وإن كان الكلام من
فضة فالسكوت من ذهب. وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن
قتادة أن لقمان قال لابنه: يا بني اعتزل الشر يعتز لك فإن الشر للشر خلق.
وحدثنا أبو معاوية: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال مكتوب في الحكمة يا
بني إياك والرغب، فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب ويزيل الحكم
كما يزيل الطرب، يا بني إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم.
قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي
مليكة، عن عبيد بن عمير قال قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني اختر المجالس
على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عزوجل فاجلس معهم فإنك إن تك
عالما ينفعك علمك وإن تك غبيا يعلموك وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك
معهم. يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه، فإنك إن تك عالما
لا ينفعك علمك، وإن تك غبيا يزيدوك غبيا وان يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط
يصيبك معهم يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين يسفك دماء المؤمنين فإن له
عند الله قاتلا لا يموت. وحدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه
قال مكتوب في الحكمة: بني لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى
الناس ممن يعطيهم العطاء. وقال مكتوب في الحكمة أو في التوراة: " الرفق رأس
الحكمة " وقال مكتوب في التوراة كما ترحمون ترحمون وقال مكتوب في الحكمة: "
كما تزرعون تحصدون " وقال مكتوب في الحكمة أحب خليلك وخليل أبيك. وحدثنا
عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قيل للقمان أي الناس أصبر ؟
قال: صبر لا يتبعه أذى. قيل فأي الناس أعلم ؟ قال من ازداد من علم الناس
إلى علمه. قيل فأي الناس خير قال الغني. قيل الغني من المال قال لا ولكن
الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس. وحدثنا سفيان
هو ابن عيينة قال قيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس
مسيئا. وحدثنا أبو الصمد، عن مالك بن دينار قال: وجدت في بعض الحكمة يبدد
الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما
لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحزم حزمة ثم
ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى. وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا الحكم
بن أبي زهير، وهو الحكم بن موسى، حدثنا الفرج بن
فضالة، عن أبي سعيد قال قال لقمان لابنه: يا بني لا يأكل طعامك إلا
الاتقياء وشاور في أمرك العلماء. وهذا مجموع ما ذكره الامام أحمد في هذه
المواضع وقد قدمنا من الآثار كثيرا لم يروها كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا
والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا
زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: خير الله
لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة. قال: فأتاه
جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة قال فأصبح ينطق بها. قال سعد سمعت قتادة
يقول: قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو
أرسل إلي بالنبوة عزمة (1) لرجوت فيه الفوز منه (2)، ولكنت أرجو أن أقوم
بها ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إلي. وهذا فيه نظر
لان سعيد بن بشير عن قتادة قد تكلموا فيه، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة في قوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) قال يعني الفقه والاسلام ولم
يكن نبيا ولم يوح إليه. وهكذا نص على هذا غير واحد من السلف (3) منهم مجاهد
وسعيد بن المسيب وابن عباس والله أعلم.
________________________________________
(1) عزمة: عزائم الله فرائضه التي أوجبها على عباده. (2) في تفسير القرطبي:
لرجوت فيها العون منه. (3) قال ابن عطية: عن ابن عمر قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن
اليقين، أحب الله تعالى فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة
يحكم بالحق. فقال: رب، إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء ; وان عزمت علي
فسمعا وطاعة ". [ * ]
قصة أصحاب الاخدود
قال الله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل
أصحاب الاخدود النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون
بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يومئذ بالله العزيز الحميد. الذي له
ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين
والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) [ البروج: 1 - 10
]. قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسيره هذه السورة ولله الحمد. وقد زعم
محمد بن إسحاق: أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره فزع